فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}
هذه المخاطبة لجميع العالم والمقصود بها في ذلك الوقت من كان يطوف من العرب بالبيت عراة، فقيل كان ذلك من عادة قريش، وقال قتادة والضحاك: كان ذلك من عادة قبيلة من اليمن، وقيل كانت العرب تطوف عراة إلا الحمس وهم قريش ومن والاها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الصحيح لأن قريشًا لما سنوا بعد عام الفيل سننًا عظموا بها حرمتهم كانت هذه من ذلك، فكان العربي إما أن يعيره أحد من الحمس ثوبًا فيطوف فيه، وإما أن يطوف في ثيابه ثم يلقيها، وتمادى الأمر حتى صار عند العرب قربة فكانت العرب تقول نطوف عراة كما خرجنا من بطون أمهاتنا ولا نطوف في ثياب قد تدنسنا فيها بالذنوب، ومن طاف في ثيابه فكانت سنتهم كما ذكرنا أن يرمي تلك الثياب ولا يتتفع بها وتسمى تلك الثياب اللقى، ومنه قول الشاعر:
كفى حزنًا كرّي عليه كأنه ** لقى بين أيدي الطائفين حريم

وكانت المرأة تطوف عريانة حتى كانت إحداهن تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ** فما بدا منه فلا أحله

فنهى الله عز وجل عن جميع ذلك ونودي بمكة في سنة تسع لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، والفتنة في هذه الآية الاستهواء والغلبة على النفس، وظاهر قوله: {لا يفتننكم} نهي الشيطان، والمعنى نهيهم أنفسهم عن الاستماع له والطاعة لأمره كما قالوا لا أرينك ها هنا، فظاهر اللفظ نهي المتكلم نفسه، ومعناه نهي الآخر عن الإقامة بحيث يراه، وأضاف الإخراج في هذه الآية إلى إبليس وذلك تجوز بسبب أنه كان ساعيًا في ذلك ومسببًا له، ويقال أب وللأم أبة، وعلى هذا قيل أبوان، و{ينزع} في موضع الحال من الضمير في {أخرج}، وتقدم الخلاف في اللباس من قول من قال الأظفار ومن قال النور ومن قال ثياب الجنة، وقال مجاهد هي استعارة إنما أراد لبسة التقى المنزلة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقوله: {إنه يراكم} الآية، زيادة في التحذير وإعلام أن الله عز وجل قد مكن الشيطان من ابن آدم في هذا القدر وبحسب ذلك يجب أن يكون التحذر بطاعة الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد: والشيطان موجود قد قررته الشريعة وهو جسم، {وقبيلة} يريد نوعه وصنفة وذريته.
و{حيثُ} مبنية على الضم، ومن العرب من يبينها على الفتح، وذلك لأنها تدل على موضع بعينه، قال الزجاج: ما بعدها صلة لها وليست مضافة إليه، قال أبو علي: هذا غير مستقيم وليست {حيث} بموصولة إذ ليس ثم عائد كما في الموصولات، وهي مضافة إلى ما بعدها.
ثم أخبر عز وجل أنه صير الشياطين أولياء أي صحابة ومداخلين إلى الكفرة الذين لا إيمان لهم، وذكر الزهراوي أن جعل هنا بمعنى وصف.
قال القاضي أبو محمد: وهي نزعة اعتزالية. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {يا بني آدم لا يفتننَّكم الشيطان}
قال المفسرون: هذا الخطاب للذين كانوا يطوفون عراةً، والمعنى: لا يخدعنَّكم ولا يضلنَّكم بغروره، فيزِّين لكم كشف عوراتِكم، كما أخرج أبويكم من الجنة بغروره.
وأضيف الإخراج ونزع اللباس إليه، لأنه السبب.
وفي {لباسهما} أربعة أقوال:
أحدها: أنه النور، رواه أبو صالح عن ابن عباس؛ وقد ذكرناه عن ابن منبه.
والثاني: أنه كان كالظُفُر؛ فلما أكلا، لم يبق عليهما منه إلا الظُفر، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس؛ وبه قال عكرمة، وابن زيد.
والثالث: أنه التقوى، قاله مجاهد.
والرابع: أنه كان من ثياب الجنة، ذكره القاضي أبو يعلى.
قوله تعالى: {ليريَهما سوءاتهما} أي: ليري كل واحد منهما سوأة صاحبه.
{إنه يراكم هو وقبيله} قال مجاهد: قبيله: الجن والشياطين.
قال ابن عباس: جعلهم الله يَجرون من بني آدم مجرى الدم، وصدور بني آدم مساكن لهم، فهم يرون بني آدم، وبنو آدم لا يرونهم.
قوله تعالى: {إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون} قال الزجاج: سلَّطناهم عليهم، يزيدون في غيّهم.
وقال أبو سليمان: جعلناهم موالين لهم. اهـ.

.قال القرطبي:

{يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} فيه مسألتان:
الأُولى قوله تعالى: {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ} أي لا يصرفنّكم الشيطان عن الدِّين؛ كما فتن أبويكم بالإخراج من الجنة.
أَبٌ للمذكر، وأبة للمؤنث.
فعلى هذا قيل: أبوان.
{يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} في موضع نصب على الحال.
ويكون مستأنفَا فيوقف على {مِنَ الْجَنَّةِ}.
{لِيُرِيَهُمَا} نصب بلام كيّ.
{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} الأصل يرءاكم ثم خفّفت الهمزة.
{وَقَبِيلُهُ} عطف على المضمر وهو توكيد ليحسن العطف؛ كقوله: {اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة}.
وهذا يدل على أنه يقبح رأيتك وعمرو، وأن المضمر كالمظهر.
وفي هذا أيضًا دليل على وجوب ستر العورة؛ لقوله: {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا}.
قال الآخرون: إنما فيه التحذير من زوال النعمة؛ كما نزل بآدم صلى الله عليه وسلم.
هذا أن لو ثبت أن شرع آدم يلزمنا، والأمر بخلاف ذلك.
الثانية قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} {قَبِيلُهُ} جنوده.
قال مجاهد: يعني الجن والشياطين.
ابن زيد: {قبيله} نسله.
وقيل: جيله.
{وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} قال بعض العلماء: في هذا دليل على أن الجنّ لا يُرَوْن؛ لقوله: {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ}.
وقيل: جائز أن يُرَوْا؛ لأن الله تعالى إذا أراد أن يُريهم كشف أجسامهم حتى تُرى.
قال النحاس: {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} يدل على أن الجن لا يُرَون إلا في وقت نبيّ؛ ليكون ذلك دلالة على نبوّته؛ لأن الله جل وعز خلقهم خلقًا لا يُرَون فيه، وإنما يرون إذا نقلوا عن صورهم.
وذلك من المعجزات التي لا تكون إلا في وقت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
قال القشيرِيّ: أجرى الله العادة بأن بني آدم لا يرون الشياطين اليوم.
وفي الخبر: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» وقال تعالى: {الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس} [الناس: 5].
وقال عليه السلام: «إن للمَلك لمة وللشيطان لَمَّة أي بالقلب فأما لمة الملَك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق» وقد تقدم في البقرة.
وقد جاء في رؤيتهم أخبار صحيحة.
وقد خرّج البخاريّ عن أبي هريرة قال: وكّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، وذكر قصة طويلة، ذكر فيها أنه أخذ الجِنِّي الذي كان يأخذ التمر، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: «ما فعل أسِيرك البارحة» وقد تقدّم في البقرة.
وفي صحيح مسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «والله لولا دعوة أخي سليمان لأصبح مُوثَقًا يلعب به وِلدان أهلِ المدينة» في العِفريت الذي تَفَلَّت عليه.
وسيأتي في ص إن شاء الله تعالى.
{إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي زيادة في عقوبتهم وسوّينا بينهم في الذهاب عن الحق. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة}
قيل: هذا خطاب للذين كانوا يطوفون بالبيت عراة والمعنى: لا يخدعنكم بغروره ولا يضلنكم فيزين لكم كشف عوراتكم في الطواف وإنما ذكر قصة آدم هنا وشدة عداوة إبليس له ليحذر بذلك أولاد آدم فقال تعالى: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} يعني آدم وحواء عليهما الصلاة والسلام والمعنى أن من قدر على إخراج أبويكم من الجنة بوسوسته وشدة عداوته فبأن يقدر على فتنتكم بطريق الأولى فحذر الله عز وجل بني آدم وأمرهم بالاحتراز عن وسوسة الشيطان وغروره وتزيينه القبائح وتحسينه الأفعال الرديئة في قلوب بني آدم فهذه فتنته التي نهى الله تعالى عباده عنها وحذرهم منها.
قوله تعالى: {ينزع عنهما لباسهما} إنما أضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يباشر ذلك لأن نزع لباسهما كان بسبب وسوسة الشيطان وغروره فأسند إليه واختلفوا في اللباس الذي نزع عنهما، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وبقيت الأظفار تذكرة وزينة ومنافع، وقال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: كان لباس آدم وحواء نورًا، وقال مجاهد: كان لباسهما التقى.
وفي رواية عنه التقوى وقيل إن لباسهما من ثياب الجنة وهذا القول أقرب لأن إطلاق اللباس ينصرف إليه ولأن النزع لا يكون إلا بعد اللبس {ليريهما سواءتهما} يعني: ليرى آدم عورة حواء وترى عورة آدم وكان قبل ذلك لا يرى بعضهم سوءة بعض {إنه يراكم هو وقبيله} يعني أن إبيلس يراكم يا بني آدم هو وقبيله إنما أعاد الكناية في قوله هو ليحسن العطف والقبيل جمع قبيلة وهي الجماعة المجتمعة التي يقابل بعضهم بعضًا، وقال الليث: كل جيل من جن أو إنس قبيل ومعنى يراكم هو وقبيله أي من هو من نسله، وحكى أبو عبيدة عن أبي يزيد القبيل: ثلاثة فصاعدًا من قوم شتى والجمع قبل والقبيلة بنو أب واحد.
وقال الطبري: قبيله يعني صنفه وجيله الذي هو منهم وهو واحد يجمع على قبل وهم الجن.
وقال مجاهد: الجن والشياطين وقال ابن يزيد: قبيله نسله.
وقال ابن عباس رضي عنهما: هو ولده وقوله: {من حيث لا ترونهم} يعني أنتم يا بني آدم، قال العلماء رحمهم الله: إن الله تعالى خلق في عيون الجن إدراكًا يرون بذلك الإدراك الإنس ولم يخلق في عيون الإنس هذا الإدراك فلم يروا الجن.
وقالت المعتزلة الوجه في أن الإنس لا يرون الجن ورقة أجسام الجن ولطافتها والوجه في رؤية الجن للإنس كثافة أجسام الإنس والوجه في رؤية الجن بعضهم بعضًا أن الله تعالى قوى شعاع أبصار الجن وزاد فيها حتى يرى بعضهم بعضًا ولو جعل في أبصارنا هذه القوة لرأيناهم ولكن لم يجعلها.
وحكى الواحدي وابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وجعلت صدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه الله تعالى» كما قال تعالى: {الذي يوسوس في صدور الناس} فهم يرون بني آدم وبنو آدم لا يرونهم، وقال مجاهد: قال إبليس جعل لنا أربعة نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى.
وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: إن عدوًا يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله تعالى: {إنا جعلنا الشياطين أولياء} يعني أعوانًا وقرباء {للذين لا يؤمنون} قال الزجاج يعني سلَّطانهم عليهم يزيدون في غيهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{يا بني آدم لا يفتننّكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما} أي لا يستهوينّكم ويغلب عليكم وهو نهي للشيطان والمعنى نهيهم أنفسهم عن الإصغاء إليه والطواعية لأمره كما قالوا لا أرينك هنا ومعناه النهي عن الإقامة بحيث يراه، وكما في موضع نصب أي فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم ويجوز أن يكون المعنى لا يخرجنّكم عن الدين بفتنته إخراجًا مثل إخراجه أبويكم، وقرأ يحيى وإبراهيم: {لا يفتننكم} بضمّ الياء من أفتن، وقرأ زيد بن علي: لا يفتنكم بغير نون توكيد والظاهر أنّ لباسهما هو الذي كان عليهما في الجنة، وقال مجاهد هو لباس التقوى {سوءاتهما} هو ما يسوءهما من المعصية وينزع حال من الضمير في {أخرج} أو من {أبويكم} لأنّ الجملة فيها ضمير الشيطان وضمير الأبوين فلو كان بدل ينزع نازعًا تعين الأول لأنه إذ ذاك لوجوز الثاني لكان وصفًا جرى على غير من هوله فكان يجب إبراز الضمير وذلك على مذهب البصريين وينزع حكاية أمر قد وقع لأنّ نزع اللباس عنهما كان قبل الإخراج ونسب النزع إلى الشيطان لما كان متسببًا فيه.